دكتور محمد سالمان يكتب: سوق الكهرباء بين الإصلاح المؤجل ومصالح الاحتكار… وماذا بعد انتهاء المهلة التشريعية؟

قبل عشر سنوات، أقر المشرّع المصري قانون الكهرباء رقم 87 لسنة 2015 واضعًا الأسس القانونية لتحرير السوق وفتح الباب أمام المنافسة، مع فترة انتقالية مدتها ثماني سنوات، تم تمديدها لاحقًا بالقانون رقم 70 لسنة 2021 إلى عشر سنوات تنتهي في 9 يوليو 2025. كان الهدف واضحًا: فصل الأدوار بين المنتجين والمشغلين والموزعين، وإتاحة الفرصة لدخول مستثمرين جدد، وخلق بيئة تنافسية تخفض الأسعار وتحسن الخدمة، وتضع مصر على خريطة أسواق الطاقة الإقليمية.
لكن ما حدث على أرض الواقع مختلف تمامًا. فقد ظلت منظومة الكهرباء أسيرة مركزية شديدة، واستمر الإسناد المباشر للمشروعات وشراء الطاقة من المنتج بمعرفة شركة النقل، (والتي تحررت من شبكة القابضة بصعوبة ولم يتم هيكلتها حتى الان للاستعداد لمتطلبات تحرير السوق) وتراكمت المصالح والنفوذ وحب السطوة ، فيما ظل المواطن يدفع ثمن وتكلفة سوء الإدارة واعباء القرارات الخاطئة في ظل سوق احتكارية وضياع فرص المستثمر الجاد وتنوع مصادرهم وتم التركيز على عدد محدود جدا من المستثمرين تربطهم شبكة مصالح.
واليوم، ومع انتهاء المهلة القانونية دون تفعيل سوق تنافسي حقيقي، يظهر السؤال: من المستفيد من بقاء الوضع كما هو؟ وما المسار الممكن لإنقاذ مشروع تحرير السوق قبل أن يتحول إلى حبر على ورق؟
أولًا: ما فائدة تحرير سوق الكهرباء؟
تحرير السوق يعني الانتقال من نظام احتكاري مركزي تتحكم فيه جهة واحدة في التوليد والنقل والتوزيع والتسعير، إلى سوق تنافسي منظم يسمح لعدة منتجين وموردين بالدخول والمنافسة، مع وجود مشغل مستقل للشبكة وهيئة تنظيمية تضع القواعد وتحمي المنافسة.
الفوائد الرئيسية:
خفض الأسعار عبر المنافسة
دخول منتجين جدد يعزز التنافس على الأسعار والكفاءة، ما يقلل تكلفة الكيلووات ساعة على المدى المتوسط.
المستهلك (خاصة الصناعي) يصبح قادرًا على اختيار العرض الأنسب بدلًا من الاعتماد على مورد واحد.
تحسين الكفاءة التشغيلية
المنتجون يتنافسون على تقليل الفاقد، خفض استهلاك الوقود، وزيادة الاعتماد على الطاقة المتجددة وكذلك شركات التوزيع لن يقبلوا بتحمل أعباء الفقد التجارى من سرقات تيار او تلاعب في القراءات بالإضافة الى العمل على تحسين الفقد الفنى.
جذب الاستثمارات
وضوح القواعد وشفافية التسعير تجذب مستثمرين محليين وأجانب، خاصة في مشروعات الطاقة المتجددة والتخزين وإعطاء الفرصة لدخول شركات عالمية أخرى.
تسريع التحول للطاقة النظيفة
السوق المفتوحة تعطي حوافز اقتصادية لمشروعات الطاقة الشمسية والرياح والهيدروجين منخفض الكربون، وتجعلها أكثر تنافسية مع المصادر التقليدية.
تحسين الخدمات للمستهلك
المنافسة تدفع الموردين لتقديم خدمات أفضل، مثل أنظمة متابعة الاستهلاك، وخطط أسعار مرنة، وخيارات للطاقة الخضراء.
ثانيًا: دور تحرير السوق في الربط الدولي وتبادل الطاقة
تحرير السوق لا يقتصر على السوق المحلي، بل هو شرط أساسي لنجاح مشروعات الربط الكهربائي الدولي، خاصة إذا كانت مصر تطمح لتكون مركزًا إقليميًا للطاقة.
العلاقة المباشرة:
توافق أنظمة السوق
أسواق الكهرباء المحررة تتبع نفس المبادئ: تسعير شفاف، فصل الأدوار، عقود موحدة، ومنصات تبادل.
هذا يسهل الدمج مع أسواق الدول الأخرى عبر آليات مثل Market Coupling المستخدمة في أوروبا.
تسعير عابر للحدود
في السوق المحررة، يمكن بيع وشراء الكهرباء عبر الحدود بأسعار لحظية أو يومية، مما يفتح مجال التصدير والاستيراد وفق السعر الأفضل.
الاستفادة من الفروقات الزمنية والموسمية
مثلاً: تصدير الكهرباء الفائضة في وقت الذروة الشمسية في مصر إلى أوروبا أو الخليج، واستيراد الكهرباء الرخيصة ليلاً أو في مواسم انخفاض الطلب المحلي.
زيادة أمان الإمداد
الربط مع أسواق أخرى يعطي احتياطي طاقة إضافي يمكن استدعاؤه وقت الحاجة ويعتبر مخزون للطاقة ، ويقلل مخاطر الانقطاعات الكبرى.
ثالثا المستفيدون من عدم تحرير سوق الكهرباء
هناك شبكة مصالح قوية تستفيد من استمرار الوضع الحالي القائم على الإسناد المباشر والاحتكار، وتقاوم أي إصلاح حقيقي.
1. ومن مظاهر ذلك في المنظومة المحتكرة
مصادر النفوذ: الجمع بين أكثر من منصب وصلاحيات، والتحكم المطلق في التعيينات والترقيات والقدرة على توجيه المشروعات والعقود والحصول على مكافآت وحوافز استثنائية.
اسعار أعلى من السوق العالمى وغياب الشفافية في شروط التعاقد واستمرار احتكار شركات معينة للمشروعات الكبرى.
رابعا الموقف القانوني بعد انتهاء المدة القانونية لتحرير السوق
من الناحية النظرية: هناك مخالفة لروح ونص القانون إذا لم يتم تفعيل السوق التنافسي أو تعديل التشريع لتمديد المهلة مرة أخرى مما يؤثر على سمعة الالتزام التشريعي و ضعف الثقة في جدية تطبيق القوانين الاقتصادية.
من الناحية العملية: الدولة قد تتجه إلى:
تمديد غير معلن للمهلة أو تعديل جديد في القانون.
بدء خطوات متأخرة لتشغيل سوق تدريجي (عقود ثنائية – مناقصات – منصة يوم تالي مبسطة).
الحفاظ على الوضع الحالي مع تعديلات شكلية.
خامسا الخطوة المطلوبة الآن
إصدار قرار سياسي وتنفيذي عاجل يحدد مصير السوق: إما تفعيل التحرير فورًا بخطة زمنية قصيرة، أو تعديل القانون بوضوح مع تحديد أسباب التأجيل.
إطلاق مرحلة انتقالية قصيرة (12–18 شهر) تشمل:
تفعيل العقود الثنائية للمستهلكين الكبار.
طرح منصة يوم تالي مبسطة.
البدء في بناء مشغل سوق مستقل.
إطلاق مناقصات شفافة للطاقة المتجددة والتخزين مع تحميل تكلفتها للمستهلكين المؤهلين دون أعباء على شركة النقل .
الخلاصة :
تحرير سوق الكهرباء ليس فقط لتحسين الوضع المحلي، بل هو البوابة الإلزامية للانخراط في أسواق الطاقة الإقليمية والعالمية، والاستفادة من مشروعات الربط الدولي، وتحقيق هدف مصر بأن تكون مركزًا لتبادل الطاقة في الشرق الأوسط وأفريقيا وأوروبا.
الوضع الحالي يخلق "طبقة مستفيدة" ترى في تحرير السوق تهديدًا مباشرًا لمصالحها، لأنه سيحد من سلطاتها، ويفرض منافسة حقيقية، ويكشف الأداء أمام الجمهور والمستثمرين. لذلك، أي خطة لتحرير سوق الكهرباء في مصر يجب أن تضع في الحسبان كيفية كسر هذا الارتباط ، وضمان استقلال الجهات المنظمة والمشغلة.
د. محمد سليم سالمان
استشارى الطاقة والاستدامة
القاهرة 12/8/2025