بين التنظيم والتنفيذ.. هل تتجاوز “القابضة” صلاحيات “تنظيم مرفق الكهرباء”

في ذكرى انتصارات أكتوبر المجيدة، التي جسدت أعظم صور التلاحم الوطني بين القيادة والشعب، وبين الإرادة والعلم، نتوقف اليوم أمام معركة من نوعٍ آخر — معركة الإدارة الرشيدة للموارد وضرورة الحفاظ على مؤسسات الدولة وهيبتها التنظيمية.
فكما انتصرنا في أكتوبر بالتخطيط والانضباط، فإن الحفاظ على كفاءة مؤسساتنا التنظيمية هو امتداد لذلك النصر في ميادين التنمية والطاقة.
وفي هذا السياق، أثار الخبر المنشور مؤخرًا على احد المواقع الصحفية بعنوان (مصادر: إلغاء كل الأسعار التي وضعها جهاز تنظيم المرفق) موجة من التساؤلات داخل الأوساط الفنية والاقتصادية حول مدى قانونية هذا الإجراء، خاصة في ظل ما تردد عن أن الملف قد عاد إلى الشركة القابضة للكهرباء لتحديد الأسعار الجديدة بين شركات الإنتاج والتوزيع.
ورغم خطورة الخبر وأبعاده، لم يصدر حتى الان عن جهاز تنظيم مرفق الكهرباء وحماية المستهلك (EgyptERA) أي بيان رسمي يؤكد التراجع أو الإلغاء، حيث أفادت الشركة القابضة ان الأسعار الجديدة لا تغطي التكلفة الفعلية وتُسبب خسائر وصلت إلى نحو 16.8 مليار جنيه وفق تقديراتها وحساباتها الداخلية.
أولاً: من له الحق في التسعير؟
يُعد جهاز تنظيم مرفق الكهرباء وفقًا لقانون الكهرباء رقم (87) لسنة 2015 الجهة الوحيدة المختصة بوضع التعريفة واعتماد الأسعار وفق منهجية علمية تستند إلى:
التكلفة الحدّية للإنتاج والنقل والتوزيع (Marginal Cost).
الأداء الفني والاقتصادي المستهدف للشركات (Performance Benchmarking).
كفاءة التشغيل والتحصيل (Efficiency & Collection Rate).
حماية المستهلك وضمان العدالة في الأسعار.
هذه المنهجيات تفترض أن الشركات تؤدي عملها وفق معدلات كفاءة قياسية، وأن أي تراجع عن هذه المعدلات هو مسؤولية إدارية داخلية لا يجب أن تُحمّل على سعر البيع أو المستهلك النهائي، أي تعديل أو إلغاء للتعريفة لا يجوز أن يتم بقرار تنفيذي من الشركة القابضة، بل فقط عبر قرار وزاري معتمد بعد التشاور مع الجهاز، أو بموجب حكم قضائي في حال وجود خطأ إجرائي أو فني.
ثانيًا: الخسائر التقديرية ليست مبررًا لإلغاء التعريفة
تُحمّل الشركة القابضة خسائرها الأخيرة إلى الأسعار المحددة من جهاز التنظيم، بينما تشير القراءة الفنية إلى أن هذه الخسائر ربما تكون ناتجة عن إدارة المنظومة وليست ناتجة عن التسعير نفسه، وهذه بعض النقاط التي يجب وضعها في الاعتبار:
الفقد الفني في شبكات التوزيع ومحطات الإنتاج لأسباب تشغيلية او بنية تحتية من اصول.
الفقد التجاري الناتج عن ضعف التحصيل، وتأجيل القراءات، والمخالفات والأسلوب المتبع منذ عقود دون تصحيح عميق لأسلوب إدارة التحصيل والقراءات.
ارتفاع التكاليف الثابتة والمصروفات التشغيلية وزيادة في المصروفات غير المباشرة.
ضعف كفاءة التشغيل في بعض المحطات الغازية والبخارية القديمة.
أي أن ما تُعانيه الشركات هو خلل إداري وتشغيلي ربما يكون سببا رئيسيا قبل ان يكون خللاً تنظيمياً في منهجية التسعير.
فالتعريفة تُفترض فيها الكفاءة المثلى، وإذا قصرت الشركة عن بلوغها فالمسؤولية إدارية لا تشريعية.
ثالثًا: تضارب المصالح وخطر احتكار القرار
أن تستحوذ الشركة القابضة على حق تحديد الأسعار بنفسها، فهذا يعني أنها أصبحت المُنتِج والمُوزّع والمُسعّر والمستفيد في الوقت ذاته، وهو جوهر الاحتكار المقنّع.
القانون أُقرّ فصل الأدوار لضمان عدالة السوق وتهيئة المناخ للمنافسة، لكن عودة صلاحيات التسعير إلى القابضة تمثل بكل وضوح دورها في تأخير مسار تحرير سوق الكهرباء الذي كان يفترض أن يبدأ تدريجيًا منذ عام 2015 وتم أجيله مرتين ، وذلك عبر الفصل بين المنظم (Regulator) والمشغل (Operator).
ذلك الفصل هو ما يمنح الثقة للمستثمرين المحليين والدوليين في مشاريع الطاقة الجديدة والمتجددة، ويؤسس لتسعير عادل وشفاف وتحسين في الإدارة التنظيمية والتشغيلية لمرفق الكهرباء.
رابعًا: الحل في العوامل التصحيحية وليس في إلغاء القرارات
بدلاً من التراجع الكامل عن الأسعار، يمكن تبنّي آلية تصحيح مرنة تراعي التباينات بين الشركات عبر “معاملات تصحيحية” (Correction Factors)، مثل:
العامل التصحيحي
التوضيح
نوع الوقود المستخدم وكفاءة المحطات
غازي / بخاري / دورة مركبة / متجددة
طبيعة الشبكات
كابلات أرضية أو خطوط هوائية
خليط المشتركين
سكني، تجاري، صناعي، زراعي
الموقع الجغرافي
مناطق نائية أو حضرية
كفاءة التشغيل والتحصيل
مكافأة الشركات ذات الأداء الجيد
هذه المنهجية معمول بها عالميًا، وتُبقي على دور الجهاز التنظيمي كمرجعية مع إعطاء الشركات المرونة في تحسين كفاءتها.
خامسًا: البعد المؤسسي والسياسي
القضية لا تتعلق بالأرقام فحسب، بل بـ الالتزام بمبدأ الحوكمة الرشيدة (Good Governance).وهو ما اشرنا له في العديد من المقالات السابقة وان تركيز سلطة القرار تصبح مركزية في شخص وحيد
إن تجاوز الجهاز التنظيمي في اتخاذ القرار يمسّ هيبة الدولة المؤسسية ويفتح الباب لتدخلات تنفيذية تُضعف الثقة في عدالة السوق وكفاءة الإدارة العامة ويذهب مسار تحرير السوق الى غير رجعة.
وإذا كانت الشركة القابضة ترى أن التعريفة لا تغطي تكاليفها، فالمعالجة السليمة تكون عبر مراجعة الأداء والهيكل المالي والتشغيلي، لا عبر سحب صلاحيات جهاز مستقل أنشئ أساسًا لحماية السوق والمستهلك في آنٍ واحد.
التوصيات:
إن إلغاء الأسعار التي وضعها جهاز تنظيم مرفق الكهرباء وإعادة الملف إلى الشركة القابضة يفتح ملف الحوكمة في قطاع الكهرباء على مصراعيه.
ولكي لا يتحول القرار إلى سابقة تضعف مؤسسات الدولة، يُوصى بما يلي:
تفعيل لجان المراجعة وتدعيمها بخبرات محايدة مع المشاركة بين الجهاز والقابضة ووزارة المالية لتحديد الأسعار على أسس اقتصادية شفافة.
نشر دراسات التكلفة الحقيقية للكهرباء للجهات الإنتاجية والتوزيعية لضمان مصداقية التسعير من خلال جهات محايدة او مكاتب استشارية متخصصة.
التأكيد على استقلالية الجهاز التنظيمي بنصوص ملزمة في لوائحه التنفيذية.
تبني سياسة إعلامية واضحة تشرح للمواطنين أسباب القرار وآثاره على المدى الطويل.
خاتمة
إن استقرار قطاع الكهرباء لا يتحقق بتغيير الأسعار عند كل أزمة مالية، بل بمنهجية مؤسسية تنظم العلاقة بين المنظم والمنفذ على أسس شفافة ومتوازنة وقواعد الحوكمة.
فإذا كانت بعض الشركات تخسر، فالدواء هو تحسين الإدارة والكفاءة، لا إلغاء التنظيم.
وإن أي تراجع عن استقلال جهاز المرفق هو رسالة سلبية للمستثمرين، وضربة لمبدأ العدالة في السوق الذي هو أساس الإصلاح الاقتصادي.
المطلوب اليوم هو احترام دور كل مؤسسة في منظومة الكهرباء، لأن العدالة في التسعير تبدأ من العدالة في القرار.
د.م. محمد سليم
رئيس قطاع المراقبة المركزية للأداء بكهرباء مصر، استشاري الطاقة والاستدامة، عضو المجلس العربي للطاقة المستدامة.
أمين الطاقة / حزب المؤتمر