رئيس مجلس الإدارة
عبدالحفيظ عمار
رئيس التحرير
محمد صلاح

بين التجميل المحاسبي والإصلاح الحقيقي في قطاع الكهرباء

برزت على الساحة مناقشات بتحول إحدى شركات توزيع الكهرباء من الخسارة الى الربحية بجرة قلم ، ويُعزى ذلك إلى تعديل سعر الشراء من شركة النقل كما قيل، للوهلة الأولى يبدو الأمر نجاحًا إداريًا أو تصحيحًا ماليًا، لكنه في الواقع يعكس خللًا مؤسسيًا ومحاسبيًا أعمق يستحق التوقف أمامه بجدية، لأنه يمس جوهر العدالة والكفاءة في إدارة قطاع الكهرباء ككل وهو ما اعتادت علية الشركة القابضة لسنوات حيث تستطيع ان تحول اى شركة تابعة الى شركة رابحة او خاسرة طبقا لموائمات تراها الإدارة.
أولاً: نقل الخسارة لا يعني تحقيق ربح
حين يتم تعديل سعر الشراء بين شركتين تابعتين لنفس المنظومة، فإننا لا نخلق قيمة اقتصادية جديدة، بل ننقل الخسارة من حساب إلى آخر. فالمبلغ الذي تم تخفيفه عن كاهل شركة التوزيع سيظهر كعبء إضافي على شركة النقل، مما يضعف مركزها المالي ويشوّه الصورة الحقيقية لأداء القطاع.
العمل المحاسبي الرشيد يجب أن يعكس الواقع الاقتصادي، لا أن يُجمّله أو يُعيد توزيع الأرقام داخل نفس الدائرة المغلقة. وهذا الأسلوب لا يختلف كثيرًا عن تجميل القوائم المالية لتفادي تطبيق مواد القانون المتعلقة بتصفية الشركات التي تجاوزت خسائرها رأس المال أو حقوق المساهمين (Equity).
ثانياً: مواءمات محاسبية لا تُنتج إصلاحًا
ما يجري حاليًا من “تصحيح ظاهري” هو في الحقيقة مواءمة محاسبية هدفها تفادي الاعتراف بالخسائر أو التبعات القانونية. لكنها لا تمس جذور الأزمة المتمثلة في:
ضعف الكفاءة التشغيلية لبعض الشركات.
غياب نظام تسعير يعكس التكلفة الحقيقية للطاقة والتوزيع.
غياب قواعد تقييم أداء موضوعية وشفافة بمعاملات تصحيحية طبقا لكل شركة وتطبق على الجميع.
مركزية القرار المالي دون ارتباطه بالمؤشرات الاقتصادية الفعلية.
مثل هذه المعالجات المؤقتة قد تؤجل الأزمة لكنها لا تمنعها، بل تجعلها أكثر تعقيدًا في المستقبل.


ثالثاً: الطريق إلى الإصلاح – سوق حر ومؤشرات عادلة
الإصلاح الحقيقي يبدأ من تحرير سوق الكهرباء تدريجيًا، وإطلاق نظام مؤشرات تصحيحية لقياس الأداء الفني والمالي والتجارى، على أن تُطبق هذه القواعد على جميع الشركات دون تمييز.
التحرير لا يعني الفوضى، بل يعني:
وجود هيئة مستقلة لضبط السوق ووضع المعايير.
تحديد تعريفة مرجعية شفافة بين النقل والتوزيع والإنتاج.
تشجيع دخول القطاع الخاص كمنافس ومنتج ومستثمر.
إتاحة الفرصة للمستهلكين المؤهلين للاختيار والمقارنة وفقًا للجودة والسعر.
عندها فقط يمكن تقييم كل شركة وفق أدائها الفعلي، لا بناءً على نقل أرقام بين جداول المحاسبين.
رابعاً: الرؤية المؤسسية المطلوبة
الإصلاح المالي لا يمكن فصله عن الإصلاح المؤسسي.
ينبغي أن تكون الشفافية، الحوكمة، والمساءلة هي الأسس التي يُبنى عليها القطاع، بحيث تتحول الشركات من كيانات إدارية إلى مؤسسات اقتصادية تُدار بكفاءة وربحية مستدامة.
ولعل التجارب الدولية – من أسواق أوروبا إلى آسيا – تؤكد أن تحرير السوق وخلق التوازن بين العرض والطلب تحت إشراف منظم هو السبيل الأوحد لاستدامة الكهرباء كخدمة وكقطاع اقتصادي في آن واحد.
وفى الختام
ما نحتاجه ليس "تجميل الأرقام" بل إعادة بناء المنظومة على أسس اقتصادية وحوكمة مؤسسية سليمة.
تحقيق الربح لا يأتي بقرار بتعديل سعر دون منافسة، بل من خلال كفاءة التشغيل، إدارة الفقد، وتحسين التحصيل، إلى جانب إصلاح تشريعي وتنظيمي يعيد الثقة والعدالة لكل أطراف المنظومة.
إننا أمام لحظة تستوجب الشجاعة في اتخاذ القرار:
إما أن نستمر في المواءمات المحاسبية حتى تتآكل الحقوق وتختل التوازنات وتصل الخسائر الى الحد الذى لا تتحمله الشركة القابضة وزيادة الأعباء على المستهلكين لأسباب ليسوا مسئولين عنها،
أو أن نبدأ طريق الإصلاح الحقيقي الذي يجعل من قطاع الكهرباء نموذجًا للحوكمة الرشيدة والتنمية المستدامة.
 

د.م. محمد سليم سالمان، استشارى الطاقة والاستدامة.
 

تم نسخ الرابط
ads